خيال المقاته
قصة قصيرة
بقلم : محمد ابراهيم اسحاق
الذهب .. الذهب .. الذهب , هذا ما صار يشغل الأذهان في الآونة الأخيرة , الكثيرون سمعوا عن المناجم السحرية التي تحقق الآمال في أيام أو أسابيع , فقط عليك أن تحفِر وتنتظِر حظك , و تصبِح غنياً .. الكثيرون تركوا أعمالهم التي مارسوها عقوداً من الزمان ليبحثوا عن الغنى في أيام , لذلك ذهب هو أيضاً , ذهب ليُنقِب , لم يكن له عمل بشكل دائم , و كانت له أحلام و طموحات رأى أن سبيل تحقيقها هو إحدى حُفر الذهب , إنطلق مع شُلة من أصدقائه , قاصدين الذهب , كانوا جميعاً شباباً لم يكمل أكبرهم سِن الثلاثين , أخذوا معاولهم و بعض العِدة التي تساعد في حَفْر و اكتشاف الذهب , ذهبوا الى مدينة سودري التي أصبح فقيرها يمتلك سيارة تايوتا لاندكروزر , الجميع في مدينة سودري حققوا أمانيهم , رغم أن الانسان لا يكُف عن التمني , وصل هو و أصدقائه و إستأجروا خيمة ليأوا إليها ساعات الحر و لتقيهم برد الليل ..
بدأوا أعمال التنقيب بعد أن سمح لهم صاحب أحد المناجم بالعمل في بئره , هم سيحفرون و بعد أن يجِدوا الذهب سيقدِمون له نصيبه الذي دفع ثمنه رسوماً لتصديق المنجم من المحلية , لأنها أرض الدولة .
في الأسبوع الأول لم يجدوا غير الثرى , حتى أنهم فقدوا الثقة في فكرتهم , إلا أنهم ما أن يرون سيارة فخمة يدعي راكبها أنه اشتراها من تنقيب الذهب حتى يذهب منهم بعض يأسهم و إحباطهم ..
كان أمله أن يشتري سيارة متوسطة للركوب الخاص , و يفتتِح مشروعاً صغيراً لكسب العيش ثم يتزوج , و لم يكن يجرؤ على التصريح بهذه الأحلام إلا بعد أن سمِع عن حكايات الذهب , و كيف أن الذي يأتي شحاد يعود وهو صاحب آلاف لا تُحصى , كان هائماً يُفكِر .. متى سيأتي حظه ؟ متى سيعثُر على الذهب ؟ متى سيعود وفي حقيبته ألآف الجنيهات ؟ متى سيحقق أحلامه التي أرقت لياليه؟ و بينما هو في هذه الحالة من الشرود إرتطمت قدمه بحجر على الأرض , كانت عثرة الحظ , تعثر على حجر بارز لم يلحظه , و عندما نظر الى الأرض وجد حجراً لامعاً , أحمراًً بلون الشمس وقت المغيب , حجراً في حجم بَلكة البِناء , حمله و عاد به الى خبراء الذهب جوار المناجم , الذين فحصوا الحجر و أخبروه عن المفاجأة , إنه الذهب الأحمر النادر الذي يساوي جرامه أضعاف جرام الذهب الأصفر , بالإضافة الى أن هذا الحجر عبارة عن كُتلة خالصة من الذهب , بلا شوائب , و تم وزن الحجر الذي ساوى سته كيلو جرامات إلا قليل , و أخذ ثمنه نقداً لتمتلئ حقيبة ملابسه عن أخرها بعد أن أفرغها من الملابس , و لم يخبر أصدقاءه بما حصده , إنطلق في غفلة منهم , قرر العودة الى مدينته دون إخبار أصدقائه حتى لا يحسدوه أو يحاولوا الإستدانة من ماله الذي صنعته الصدفة , حمل حقيبته و ابتعد كلص , أو كمن يخشى من ثأر , و عندما ابتعد و ظن أنه نجح و نجا , كانت تنتظره المصيبة , قراصنة الذهب , إنهم مجموعة أشرار ينهبون أموال العائدين من منطقة الذهب , يراقبون العمال ثم يتربصون بهم في الطريق و ينهبوا ثرواتهم , ولقد رصده هؤلاء القراصنة , رصدوا حجره النفيس , و حقيبة النقود , و تبعوه في تسلله حتى خرج من المدينة .. فصاح زعيمهم :
- أنت .. توقف يا هذا ..
إلتفت ليرى الثمانية الذين يتقدمون نحوه باسلحة بيضاء مسعورة , نظر الى الطريق أمامه , لا توجد سوى حقول مزروعة و بعدها طريق الأسفلت الذي عندما يصله سينجو , و انطلق مهرولاً , و من خلفه القراصنة , كانت حقيبته ثقيلة , و لكنه يشبه ذلك الثُقل الذي يصيب الأُم الحامل , الأم الحامل تحتمل هذا الثُقل لأنها تحِبهُ , و هو يحتمل هذا الثُقل لأن يحِبهُ .. إقتربوا منه و ابتعد منهم , ثم اقتربوا فإبتعد , كأنه يهرب من مَلك الموت , حتى عندما أدركه التعب فكر في ترك الحقيبة و النجاة بنفسه , إلا أن خيال أحلامه جعله يقلِع عن فكرة اليأس و ينطلق كأقوى فرس عربي أصيل , و لهث كثيراً , و لم تبدو له نهاية الحقول .. و عندما ينظر خلفه لا يجد إلا تضاؤل المسافة التي تفصل الخير عن الشر , إنه جانب الخير و هم الأشرار الذين يطمعون في حقوق الأخرين , و فجأة لم يعُد يحتمِل , أعيّتهُ الهرولة و شعر بإغماءة مفاجئة , و جرى بعزيمة , و على البُعد لاح له جسد رجُل يقِف بين الحقول , رجل أصبح كل أمله , اذا وصل اليه فربما يتركه هؤلاء الأشرار , حتى لا يكون شاهداًعلى جريمتهم , هكذا فكر .. و اقترب من الرجل الواقف و ... و بلا مقدمات سقط أرضاً , احتضن حقيبته الثمينة و سمِع وقع خطوات الشر تقترب و ... فقد وعيه ..
لم يدرِك كم مضى عليه و هو في ثبات عميق من اللاوعي , فجأة استيقظت كل حواسه , و التفت ليجد ذلك الرجل البعيد , لا زال واقفاًً في مكانه , نهض و إنطلق ليصل مكانه و يعرِف ماذا جرى , و عندما وصل الى الرجل أجهش بالبكاء , بكى بمرارة عندما تبيّن له أنه يقف أمام خيال المقاته .. ذلك الرجل الذي يصنعه االفلاحين من الحطب لإخافة الطيور الجارحة و الحيوانات من الاقتراب , كان يشبه رجلاً واقفاً , و لقد ظنه ملجأ , نظر الى خيال المقاته بغضب , كأنه يلومه على تصلبه و عدم مساعدته له , و خُيّل اليه أن خيال المقاته يشفق على حاله , و اقترب منه ثم جلس تحت ظله الصغير , و ظل يحسب ماذا خسِر و ماذا ربِح , و اكتشف أنه ربح شيئاً أغلى من كل كنوز الأرض , ربح حياته , و اكتسب قناعة عندما فكر في تأويل هذا الخيال , خيال المقاته .
تمـــــــــــــــــت